- أكاديمي وخبير في مجال التراث
عندما يتزايد الاحتقان السياسي في الدولة الديمقراطية، تكون الانتخابات المبكّرة أو التغيير الوزاري هو الحلّ. لكن في كينيا، حيث القدرة على استيعاب الاحتقان معدومة، يأتي التنفيس عنه في صورة عنف يتكرر عقب كل انتخابات. والاضطرابات الأخيرة التي كان ظاهرها الاعتراض على زيادات ضريبية أقرّها البرلمان لتوفير 2.3 مليار دولار لتحقيق توازن في الموازنة العامة، كانت في حقيقة الأمر تراكمًا لاحتقان مستمرّ منذ سنوات، لأسباب متعددة.
كينيا تمثل لمنطقة شرق أفريقيا دولةً متقدمة ديمقراطية ذات مستوى تعليمي جيد، تتمتع بحرية الصحافة، ومستوى نقاش إعلامي رفيع، فضلًا عن ملامح اقتصاد جيد. لذا فإن سقوطها في براثن الاضطراب هو مقدمة لسقوط دول الجوار في ذات الدّوامة. أما نجاتها فتقود شرق أفريقيا إلى فضاء أرحب من التقدّم والازدهار، ومن هنا تكمن أهميتها.
بداية الاحتقان الأخير كانت بتعبئة عامة في منتصف يونيو/حزيران الماضي على شبكات التواصل الاجتماعي، للاعتراض على قانون لفرض مزيد من الضرائب. ورغم اقتحام المتظاهرين البرلمانَ وسقوط ضحايا، فإنّه أقر القانون، قبل أن يضطر الرئيس إلى التراجع عن اعتماده.
تتركز المظاهرات في نيروبي ومركزَي المعارضة؛ كيسومو في الغرب ومومباسا في الشرق، ولكنها انتشرت في 17 مقاطعة من أصل 47 مقاطعة كينية. بعض المحللين يذهبون إلى أن النزعة القبلية هي سبب هذه الاضطرابات، لكن حتى وإن كان الأمر كذلك، فقد كان مطلب المتظاهرين هو تقاسم الموارد والأراضي والمطالبة بالتنمية والرفاهية.
بعد سنوات من الديمقراطية، بات ضروريًا إعادة توزيع السلطة وتهدئة المشكلات الإثنية والعرقية، وإلا فإن الاضطرابات الأخيرة قد تكون سببًا في تجذّر العنف داخل كينيا. فالكيكويو الذين يمثلون 22% من السكان يسيطرون على السلطة منذ حقبة الاستقلال، فيما تواجه جماعات الصيد وجمع الثمار، مثل: أوجيك، وسينغوير، والعوير، وياكو، حالةً من التهميش.
كما ظهرت نزاعات انفصالية في المناطق الساحلية الفقيرة ذات الأغلبية المسلمة تحت شعار: "بواني سي كينيا" (الساحل ليس جزءًا من كينيا). وهناك مجموعات عرقية صومالية ونوبية بلا أوراق جنسية. هذا كله في حاجة ماسّة للعلاج كي لا يتصاعد العنف، في ظل أزمة اقتصادية مركبة تعاني منها كينيا، والعديد من الدول المثقلة بالديون.
الاقتصاد أولًا
إن تدهور قيمة العملة الوطنية (الشلن) وارتفاع الإنفاق الحكومي وأعباء خدمة الدين، في الوقت الذي تجاوز فيه الدين العام 68 مليار دولار، يمثل 62.3% من الناتج المحلي، إضافة إلى ارتفاع معدلات التضخم، كل ذلك أثار حفيظة الكينيين الذين اشتكوا من زيادة حجم الإنفاق على الدفاع والأمن. ففي عام 2000 كان 165.8 مليون دولار، وصل إلى مليار دولار عام 2023 بزيادة قدرها 503.6%، في الوقت الذي لم تزد فيه قطاعات كالتعليم والصحة والزراعة والصناعة بذات الوتيرة، حيث يبلغ عدد سكان كينيا 55 مليونًا، ثلثهم تحت خط الفقر.
نعم، هناك تهديد من حركة الشباب الصومالية (فرع من تنظيم القاعدة) وعمليات إرهابية، لكن تظل قدرة كينيا على كبح ذلك قائمة.
فيضانات وجفاف
في 2022 تعرضت كينيا لجفاف شديد، حتى إن العديد من الأسر فقدت أعدادًا كبيرة من ماشيتها، كما لم تزرع مساحات من الأراضي، وانتشرت أزمة جوع فقد بسببها أطفال أرواحهم، فضلًا عن تسربهم من التعليم.
وفي أبريل/نيسان 2023 تعرضت البلاد لموجة فيضانات غير مسبوقة أدت إلى تدمير محاصيل، وامتد الأثر إلى العاصمة نيروبي المبنية على مستنقعات، والتي تنتشر بها الأحياء العشوائية المفتقدة للصرف الصحي. هذا التناقض بين الجفاف والفيضانات سببه ظاهرة النينو الجوية التي تركت أثرًا سلبيًا على الاقتصاد الكيني.
وإذا علمنا أن القطاع الزراعي يستوعب 80٪ من حجم العمالة في البلاد، ومعظمه يتكون من مزارع أسرية صغيرة، يمكن تخيّل الضرر الذي أصاب الشعب الكيني، واقتصاد الدولة عمومًا، فالثروة الحيوانية والغابات ومصايد الأسماك تشكل 27% من الناتج المحلي الإجمالي، و60% من حصيلة الصادرات السلعيّة، وتصدر كينيا 22% من صادرات الشاي العالميّة، وهي رابع مصدر للزهور على الصعيد الدولي، وتتنوع صادراتها من الفواكه والخضراوات.
إلى جانب ذلك، تستورد كينيا 30% إلى 50% من احتياجاتها من الحبوب، وأغلب وارداتها في هذا المجال تأتي من أوكرانيا، وجاءت الحرب الروسية الأوكرانية لترفع أسعار الحبوب وتضر بميزان المدفوعات، وترفع أسعار الخبز، بالتواكب مع ارتفاع أسعار الغاز، مما أضر بالمواطن البسيط وساعد على زيادة الاحتقان.
اضطراب الجوار
مثلت الاضطرابات في دول الجوار مشكلة لكينيا، فقد شهدت البلاد استقرارًا وانتعاشًا وجيزًا بعد استقلال جنوب السودان، ومد خط سكة حديدية من أوغندا إلى ميناء مومباسا الكيني، ولكن الاضطرابات في الصومال وإغلاق الحدود حتى 2023 كان لهما تأثيرهما السلبي، ولا سيما مع تعاطف بعض الكينيين مع حركة الشباب الصومالي نتيجة الفقر، زاد من هذا مشكلاتُ ترسيم الحدود البحرية بين الجانبين والتي انتهت إلى حكم محكمة العدل لصالح الصومال بمنحه مائة ألف كيلومتر غنية بالأسماك وثروات النفط والغاز، وهو ما لم تقبله كينيا وبقي مثار نزاع بينهما.
والخلاصة أن كينيا دولة على عتبة تطور غير مسبوق إذا استطاعت معالجة تلك المشكلات.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.